مجتمع

تل أبيب: قصة الحي الشعبي الذي أصبح قلب إسرائيل

كيف تحولت تل أبيب من حي شعبي لأن تكون هي إسرائيل حتى بعد انتقال العاصمة منها للقدس وظلت محتفظة برمزيتها وأهميتها؟ وكيف تلاشت أسطورتها على يد المقاومة؟

future ميناء يافا القديم في تل أبيب-يافا، إسرائيل

رواية خيالية كتبها ثيودر هرتزل، الزعيم الصهيوني، بعنوان «التنويلاند - AltNeuLand»، وتعني الأرض القديمة الجديدة. في تلك الرواية التي صدرت باللغة الألمانية حكى هرتزل عن الدولة التي يحلم بتأسيسها لليهود في مختلف بقاع العالم، وكيف يخلق حركة هجرة يهودية إلى الأرض التي سيختارها لتكون وطنهم بعد الشتات.

أتى ناحوم سوكولوف، كاتب ومؤرخ يهودي، ليترجم الرواية إلى العبرية. حاول كثيراً أن يجد مصطلحاً يقابل كلمة التنويلاند ودلالته، فلم يجد. لجأ ناحوم إلى حيلة نقل المعنى بدلاً من نقل النص حرفياً، فصاغ اسم تل أفيف ليكون هو عنوان الترجمة العبرية للرواية. ورأى ناحوم أن عنوانه يحقق مراد هرتزل؛ لأن كلمة تل بمعناها العربي، ربوة مرتفعة، تشير إلى القديم، أما أفيف فكلمة عبرية معناها الربيع، وتشير إلى التجدد. فتصبح المدينة المُتخيَّلة جامعة بين الأصل القديم والرؤية المستقبلية.

إذن، فكلمة تل الربيع، التي تُستخدم أحياناً للتأكيد على أن تل أبيب مدينة عربية مغتصبة، ليست سوى ترجمة حرفية للمعنى العبري واليهودي المُراد من تسمية المدينة. وليس ثمة ما يثبت الانطباع المترسخ لدى العديدين من أن تل أبيب مبنية على أنقاض مدينة فلسطينية قديمة تُدعى تل الربيع، فلم توجد قبل وجود إسرائيل أي مدينة فلسطينية تحمل هذا الاسم.

لكن بالطبع غياب مدينة تُدعى تل الربيع لا يعني أن تل أبيب ليست مبنية على أنقاض مدينة عربية فلسطينية، وعلى أرض مُحتلة، وفي منطقة دُفع سكانها إلى هجرها، وربما ذُبحوا حين رفضوا الخروج منها؛ لأن تل أبيب المعروفة حالياً لم تكن في البداية سوى حي واحد لليهود.

البداية: حي بسيط وعشوائيات

في عام 1909، وفي فترة الحكم العثماني، بُني حي لليهود شمالي مدينة يافا. عُرف الحي باسم أحواز بايت، وهو اسم النقابة التي بَنَت الحي. لكن بعد عام واحد فقط، وباطراد وصول اليهود، أصبح اسم الحي تل أبيب. كان التوسع في نوايا مؤسسي الحي من اللحظة الأولى، فراعيا التأسيس هما مئير ديزنجوف، وعقيفا آرييه فايس.

الأول هو صاحب شركة جؤولاه، أو الخلاص بمعناها العربي، والتي تأسست بهدف شراء الأراضي الفلسطينية، أما الثاني فهو معماري كان يطمح لبناء مدينة ذات طراز أوروبي لأبناء الطبقة المتوسطة والعليا. ظلت بيوت الحي في الزيادة حتى بلغت 14 بيتاً إبان الحرب العالمية الأولى.

في لحظة ما أدركت السلطات العثمانية الخطر الذي يتكوَّن، خاصة أنها في لحظة اندلاع الحرب لاحظت تعاطف سكان هذا الحي مع القوات البريطانية، فطردت سكان الحي، وطردت اليهود الذين كانوا يعملون في يافا. وكانت يافا هي مركز الأعمال الأساسي لكل سكان تل أبيب، فلم تكن ثمة مصانع أو أي أنشطة تجارية في حي تل أبيب سوى مدرسة عبرية.

وأتى عام 1917 ليحمل لليهود نبأ سيطرة البريطانيين على يافا وتل أبيب. فعادوا للحي البسيط الذي تركوه، وبدءُوا في التوسع بلا ضابط. فقد أتى المهاجرون من بولندا وألمانيا ومعهم الأموال التي فرَّوا بها، فاستثمروها في مبانٍ على الطراز الأوروبي، وأنشطة تجارية كبيرة، فأصبحت تل أبيب ويافا أماكن جاذبة للمهاجرين الجدد وللمستثمرين.

هاجم الفلسطينيون يافا أكثر من مرة، فشعر اليهود أن تل أبيب هي المكان الآمن الوحيد، فازدادت هجرتهم إليه. ولأن المتنقلين من يافا إلى تل أبيب كانوا عمَّالاً فقراء، لم يتحملوا اقتناء منازل فارهة، سكنوا في الأكواخ على هامش المباني الأوروبية الفخمة.

ميلاد المدينة برعاية بريطانية

تدخلت بريطانيا مرة أخرى، وأعلنت في عام 1921 أن تل أبيب مدينة، وليست مجرد حي، وعيَّنت مئير ديزنجوف أولَ عمدة لها. وبِناءً على ذلك، نُقلت إليها جميع الشركات والأنشطة الصناعية. وبعد عامين رُسمت أول حدود جغرافية لتحديد ما هي تل أبيب، والتي شملت معظم المناطق المبنية على حدود الحي القديم، حتى منازل العائلات العربية صارت رسمياً تابعة لمدينة تل أبيب.

بتتابع موجات الهجرة اليهودية صارت تل أبيب هي المدينة الكبرى في فلسطين. بينما تمسكت يافا بعروبتها، واستمرت المناوشات بين سكان يافا وسكان تل أبيب، إلى الحد الذي دفع سكان تل أبيب لإنشاء ميناء خاص بهم، بدلاً من ميناء يافا الكبير، نظراً لسيطرة الفلسطينيين عليه.

بالطبع لم يقبل الإسرائيليون ذلك في نهاية المطاف، وقبل يومين فقط من إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، هاجمت عصابات الهاجاناه والأرجون سكان يافا، وهجَّروا قرابة 100 ألف فلسطيني من منازلهم، وارتكبوا مجازر مروعة في تلك المناطق. وبعد أن كانت يافا كياناً عربياً، أصبحت شيئاً هامشياً تحتويه تل أبيب، وتُضعِفه يوماً بعد الآخر. وأصبحتا بلدية موحدة تعرف رسمياً باسم تل أبيب-يافا.

وكما ابتلعت تل أبيب، يافا، ابتلعت معها سبع قرى فلسطينية أخرى، جرى تهجير سكانها وتدمير منازلها. وضُمت عنوة إلى بلدية تل أبيب، ليصبح ثمة فارق بين تل أبيب نفسها التي يسكنها 500 ألف نسمة، وتل أبيب الكبرى، أو غوش دان، التي يقطنها قرابة أربعة ملايين نسمة، والتي تبتلع كل ما يحيط بها. وابتلعت في الخمسينيات أراضي إضافية شمال نهر العوجا. ومن تبقى من الفلسطينيين أصبح حُصر في مناطق تُدعى الجيتوهات العربية.

وتوسعت تل أبيب بعد ذلك على حساب 26 قرية فلسطينية مهجرة. وحُذفت أسماء تلك القرى من الخارطة للأبد. منها قرى: ساقية، الجمَّاسين، أبو كبير، سلمة، صُمِّيل، الشيخ مونس، المنشيَّة، سارونا، السافِّرية، العباسية، عرب السوالمة، فجة، كفر عانة، الحميدية، يازور، الخيرية، بيار عدس، أرسوف، الحرم. أسماؤها تشبه بالتأكيد أسماء القرى في العديد في الدول العربية؛ لأن فلسطين جزء من النسيج العربي ماضياً وحاضراً.

بمزيد من التوسع والتوحش أصبحت تل أبيب مدينة لها وجهان؛ وجه فلسطيني فقير ومهمل، يزداد بؤساً يوماً بعد الآخر؛ ووجه أوروبي أبيض، يزداد لمعاناً مع مرور الوقت. حتى باتت تل أبيب تُعرف عالمياً باسم المدينة البيضاء، بسبب الألوان الزاهية المُستخدمة في مبانيها. وفي عام 2003 أعلنها اليونسكو موقعاً للتراث العالمي.

قلب إسرائيل

صارت تل أبيب هي إسرائيل. حتى بعد أن انتقلت العاصمة منها إلى القدس، ظلت محتفظة برمزيتها وأهميتها الحيوية. اختزالٌ قد يبدو مجحفاً، لكن بمعرفة مدى أهمية تلك المدينة لإسرائيل قد يصبح منطقياً. فهي ثاني أكبر المدن في إسرائيل بعد القدس. وإن كانت الثانية من حيث المساحة، فإنها الأولى في كل شيء آخر. فهي العمود الفقري للمجتمع الإسرائيلي اقتصادياً وتعليمياً. وتضم المقر الرئيسي لغالبية الشركات المهمة والدولية التي تعمل في إسرائيل. كما أن معظم المؤسسات التعليمية الرائدة في إسرائيل تقع في تل أبيب.

تعتبر تل أبيب كذلك المركز الثقافي والترفيهي الأساسي لإسرائيل؛ فثُلث العروض والمعارض الفنية تُقام فيها. ففيها يُوجد مسرح هابيما الوطني، وأوركسترا إسرائيل الفيلهارمونية، والأوبرا الإسرائيلية الجديدة. كأنها تحتوي المتاحف الثلاث الكبرى، متحف أرض إسرائيل، الذي يحتوي على مجموعات متنوعة في علم الآثار واليهودية والإثنوغرافيا. ومتحف تل أبيب للفنون، الذي يعرض الأعمال الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية. ومتحف الشتات المخصص لتاريخ الشعب اليهودي في الشتات.

تتركز في تل أبيب أماكن التنزه والخروج الرئيسية للمستوطنين مثل حديقة رعنانا والحديقة الوطنية وحديقة السفاري، وهي أكبر حديقة حيوانات في إسرائيل. كما يوجد فيها مقرات معظم دور النشر، ومنشآت إذاعة الجيش الإسرائيلي، واستوديوهات الإذاعة والتلفزيون. وتصدر منها غالبية الصحف الإسرائيلية ذات الصيت الدولي.

كذلك تضم المقر الرئيسي للعديد من الوزارات والإدارات الحكومية، وفي ذلك وزارة الدفاع، ومعظم السفارات الأجنبية ومقرات المنظمات العامة الأخرى. وبالطبع يقع المطار الدولي الرئيسي لإسرائيل في المنطقة الجنوبية الشرقية لتل أبيب، ويقع ميناء أسدود شديد الأهمية على الطرف الجنوبي منها.

صواريخ المقاومة تهدم الأسطورة

تلك المدينة النابضة بالحركة والسياحة، والتي عُرفت بأسطورة المدينة التي لا تنام، تحوَّلت في الشهور الأخيرة إلى مدينة يسودها الهدوء والرعب، وتلاشت أسطورتها كمدينة لا تسكن. فنظراً لمركزية تل أبيب بالنسبة لإسرائيل أصبح استهدافها متكرراً من كل فصائل المقاومة. كما زادت في الآونة الأخيرة معدلات استهدافها من أطراف أشد قوة، مثل إيران التي تجعل من استهداف تل أبيب الرد المنطقي والمناسب للصفعات الإسرائيلية المتجاوزة للخطوط الحمراء، مثل اغتيال ضيف رسمي في أراضٍ إيرانية، وهو إسماعيل هنية، أو استهداف شخصية موالية لإيران وقريبة منها مثل حسن نصر الله.

أصبحت أكثر الحركات الملاحظة في تل أبيب هي حركة هروب المستوطنين من الشوارع والأماكن الرئيسية إلى الملاجئ، اختباءً من الصواريخ أو المُسيَّرات أو حتى العمليات الفردية التي يقوم بها أحد الذئاب المنفردة. لا يهم السبب، فنادراً ما يتوقف الإسرائيلي ويسأل نفسه عن السبب، فالمهم هو الاستجابة السريعة والاختباء الفوري بمجرد سماع دوي صفارات الإنذار.

صحيح أن التعافي يحدث سريعاً، فسرعان ما يخرج المستوطنون من الملاجئ ويعاودون حياتهم. على عكس ما حدث في المرة الأولى؛ إذ هُوجمت تل أبيب بصواريخ سكود أُطلقت من العراق بأوامر من الرئيس الراحل صدام حسين، في يناير 1991، حينها تحولت المدينة البيضاء إلى مدينة أشباح، وتوقفت الحياة فيها لأسابيع، وهجرها كثير من السكان بحثاً عن الأمان، وعن مكان لا يقع في مدى الصواريخ.

عاد الأمان لهم بعد التطمينات الرسمية بوجود القبة الحديدية، ومقلاع داود، ومنظومات الدفاع الجوي المتطورة القادرة على صد صواريخ المقاومة. لكن نُزع هذا الأمان في الآونة الأخيرة بعد أن باتت المدينة تواجه تهديداً جديداً اسمه الصواريخ البالستية العابرة للقارات والمتجاوزة لمنظومات الدفاع الجوي التقليدية. وأدركوا أنه لم تعد هناك منطقة بعيدة عن نيران المقاومة وصواريخها.

تحاول إسرائيل شراء الأمان لمواطنيها مرة أخرى بالإعلان عن توافر منظومة الدفاع الأمريكية، ثاد، للتصدي للتهديد البالستي. لكن سريعاً ما عاد الرعب لسبب أصغر، وهو المُسيَّرات التي يطلقها حزب الله من لبنان، والحوثيون من اليمن. ربما توفر إسرائيل قبة حديدية تتصدى لها، وتملك بمرور الوقت تقنية تمكنها من التصدي النشط والفعال لهذه التهديدات المستحدثة. لكنها تبدو دائرة بلا نهاية، فسيبتكر المقاومون آلية جديدة للمهاجمة تتخطى آليات الدفاع. وعلى المستوطن الإسرائيلي أن يقرر إذا ما كان سيقبل العيش في هذه الدائرة اللانهائية من الخوف، أو سيغادر خارج المدينة أو يعود من حيث أتى بحثاً عن النجاة.

# إسرائيل # تل أبيب

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
الشابات: كيف نفهم حياة الحريديم في الأراضي المحتلة؟
يخرج منكم مدمروكم: ميرون القاضي اليهودي الذي يلاحق نتنياهو

مجتمع